الخميس: 26/1/2023 – كان من الممكن للطفلة ديفانشي سانغفي، التي يبلغ عمرها ثماني سنوات، أن تستلم عندما تكبر في المستقبل إدارة تجارة ضخمة في مجال الماس، تقدر قيمتها بملايين الدولارات.
لكن ابنة تاجر الماس الهندي الثري، تعيش اليوم حياة تقشف، وتستر نفسها بثوب من الساري الأبيض الخشن، وتمشي حافية القدمين، وتطرق أبواب البيوت، وتطلب الصدقات.
فقد أعلنت هذه الطفلة، وهي الابنة الكبرى لتاجر الماس دانيش سانغفي وزوجته آمي، اعتزالها العالم ومباهجه، وأصبحت راهبة.
وتعتنق عائلة سانغفي الثرية ديانة الجاين، أو الديانة الجاينية، التي يبلغ عدد أتباعها نحو 4.5 مليون شخص، وهي إحدى أقدم الديانات في العالم، وقد نشأت في الهند قبل أكثر من 2500 عام.
ويقول علماء أديان إن عدد أتباع هذه الديانة، الذين يعلنون تخليهم عن العالم المادي، يشهد تزايدا سريعا مع مرور السنوات، وإن كانت الحالات المتعلقة بالأطفال مثل ديفانشي غير شائعة.
وأقيمت مراسم نذر ديفانشي الرهبنة في 18 يناير/كانون الثاني في مدينة سورات بولاية غوجارات الواقعة غربي الهند، واتخذت الطفلة عهد “ديكشا”، أي تعهد التخلي عن الحياة المادية، بحضور كبار رهبان الجاين، وعشرات الآلاف من أتباع الديانة.
حين وصلت ديفانشي إلى مكان الاحتفال في منطقة فيسو في المدينة برفقة والديها، كانت ترتدي مجوهرات فاخرة، وثوبا من الحرير الناعم، وعلى رأسها تاج مرصع بالماس.
لكنها بعد انتهاء المراسم، وقفت إلى جانب راهبات أخريات، وهي ترتدي الساري الأبيض الخشن الذي يغطي رأسها الحليق أيضا. وتبدو الطفلة في صور وهي تحمل مكنسة ستستخدمها الآن لإبعاد الحشرات عن طريقها، لكي تتجنب الدوس عليها عن طريق الخطأ، فأتباع هذه الديانة، وخصوصا الرهبان، حريصون على أن لا يتسببوا بأذية أي كائن حي بما في ذلك الحشرات.
أصبحت ديفانشي منذ ذلك اليوم تعيش في “أوبشرايا”، وهي كلمة تعني الدير، حيث يعيش الرهبان والراهبات من أتباع الديانة الجاينية.
“لم يعد بإمكان ديفانشي أن تعيش في منزل عائلتها، ولداها لم يعودا والديها، إنها الآن سادفي (راهبة)”، كما يقول كيرتي شاه، وهو تاجر ماس من سورات، وصديق لعائلة سانغفي، وهو أيضا سياسي محلي من حزب بهاراتيا جاناتا.
ويضيف شاه “حياة راهبة الجاين قاسية حقا. سيكون عليها الآن أن تمشي إلى مكان ترغب في الذهاب إليه، ولا يمكنها أبدا أن تستخدم أي وسيلة نقل، وستنام على ملاءة بيضاء مفروشة على الأرض، كما لا يمكنها تناول أي طعام بعد غروب الشمس”.
تنتمي عائلة سانغفي إلى الطائفة الوحيدة من الجاين، التي تقبل رهبنة الأطفال، في حين تعترف الطوائف الثلاث الأخرى بالرهبان البالغين فقط.
ويعرف عن والدي ديفانشي “تدينهما الشديد”، وقد نقلت وسائل إعلام هندية عن أصدقاء للعائلة قولهم إن الطفلة “أظهرت ميلا إلى الحياة الروحانية منذ نعومة أظفارها”.
وذكرت صحيفة “تايمز أوف إنديا” أن “ديفانشي لم تشاهد قط التلفزيون أو الأفلام، ولم تذهب أبدا إلى مراكز التسوق أو المطاعم”.
وأضافت الصحيفة أن “ديفانشي منذ صغرها، كانت تصلي ثلاث مرات في اليوم، بل وتصوم منذ أن كانت في الثانية من عمرها”.
وقد أقامت الأسرة موكبا احتفاليا ضخما في مدينة سورات في اليوم السابق لمرسم إعلان رهبنة ابنتها.
واحتشد الآلاف لمشاهدة الموكب، الذي ضم الإبل والخيول وعربات تجرها الثيران، وشارك فيه عازفو الطبول، ورجال يرتدون العمامات ويحملون مظلات، وراقصون، وفنانو أداء يتحركون على سيقان خشبية طويلة.
وكانت ديفانشي تجلس مع عائلتها في عربة يجرها فيل، بينما يحييهم الناس المتجمعون ويرمون عليهم بتلات الورد.
نظمت أيضا في هذه المناسبة مواكب احتفالية في مومباي، وفي مدينة أنتويرب البلجيكية، التي تشتهر بتجارة الماس، وعائلة سانغفي لديها أعمال فيها.
ورغم وجود دعم من داخل مجتمع أتباع ديانة الجاين لهذه الممارسة، فقد أثار نذر ديفانشي الرهبنة نقاشات وجدلا، وتساءل كثيرون لماذا لم تنتظر أسرة الطفلة بلوغها سن الرشد قبل اتخاذ مثل هذه الخيارات المهمة نيابة عنها.
وكان صديق العائلة كيرتي شاه من الذين لديهم تحفظات بخصوص هذه الخطوة، ورغم أنه دعي إلى حفل (ديكشا)، فقد فضل عدم المشاركة، لأنه لا يشعر بارتياح إزاء فكرة التخلي عن العالم المادي في عمر الطفولة، وبرأيه “ينبغي على أي دين أن لا يسمح للأطفال بأن يصبحوا رهبانا”.
ويضيف متسائلا “إنها طفلة، ما الذي تفهمه بشأن كل هذا؟”. ويقول “لا يستطيع الأطفال حتى تحديد مسار دراستهم في الكلية إلى أن يصبح عمرهم 16 عاما. كيف يمكنهم اتخاذ قرار بشأن أمر سيؤثر على كامل حياتهم؟”.
عندما يعتزل طفل الحياة المادية ويحتفل به المجتمع، يمكن أن يبدو الأمر في البداية وكأنه مجرد حفلة كبيرة بالنسبة له، لكن البروفيسورة نيليما ميهتا، مستشارة حماية الطفل في مومباي، تقول إن “الصعوبات والحرمان اللذين ستعيشهما هذه الطفلة سيكونان هائلين”، مضيفة “الحياة كراهبة جاين صعبة للغاية”.
وأعرب آخرون عديدون من أفراد مجتمع الجاين أيضا عن عدم ارتياحهم لفصل طفلة عن عائلتها في مثل هذه السن الصغيرة.
وانتقد كثيرون عائلة سانغفي على وسائل التواصل الاجتماعي حين علموا بالخبر، واتهموها بانتهاك حقوق طفلتها.
ويقول شاه إن الحكومة يجب أن تتدخل، وتوقف هذه الممارسة المتمثلة في اعتزال الأطفال للعالم، وتحولهم إلى رهبان.
لكن تدخل الحكومة يبدو أمرا مستبعدا، إذ حين تواصلت مع مكتب بريانك كانونغو، رئيس اللجنة الوطنية لحماية حقوق الطفل، لأستفسر عما إذا كانت الحكومة ستتخذ أي خطوة بشأن قضية ديفانشي، كان الرد أنه لا يريد التعليق على القضية لأنها “مسألة حساسة”.
لكن نشطاء يقولون إن حقوق ديفانشي قد انتهكت.
وتقول البروفيسورة ميهتا ردا على الذين يقولون إن الطفلة اعتزلت “بدافع من إرادتها الحرة”، إن “موافقة الأطفال ليست موافقة قانونية”.
وتوضح “من الناحية القانونية، فإن سن الـ 18 عاما، هو العمر الذي يتخذ فيه الشخص قرارا مستقلا. وحتى ذلك الحين، فالقرار يتخذ نيابة عنه من قبل شخص بالغ، مثل أحد الوالدين، والذي يتعين عليه التفكير فيما إذا كان ذلك في مصلحة الطفل”.
وتضيف بخصوص حالة ديفانشي، أنه “إذا كان هذا القرار يحرم الطفلة من التعليم والترفيه، فهو انتهاك لحقوقها”.
لكن الدكتور بيبين دوشي، أستاذ فلسفة الديانة الجاينية في جامعة مومباي، يقول “لا يمكنك تطبيق المبادئ القانونية في العالم الروحاني”.
ويضيف “يقول البعض إن الطفل لا يمتلك النضوج الكافي لاتخاذ مثل هذه القرارات، لكن هناك أطفالا يتمتعون بقدرات فكرية أعلى، ويمكنهم في سن مبكرة إنجاز ما لا يستطيعه البالغون. وبالمثل، هناك أطفال لديهم ميول روحانية، فأين الخطأ في أن يصبحوا رهبانا؟”.
كما يصر الدكتور دوشي على أن ديفانشي، لا تتعرض للأذى بأي شكل من الأشكال.
ويوضح “قد تكون محرومة من وسائل الترفيه التقليدية، ولكن هل هذا ضروري حقا للجميع؟ وأنا لا أوافق على أنها ستكون محرومة من الحب أو من التعليم. ستتلقى الحب من معلمها (غورو)، وستتعلم الصدق وعدم – التعلق .. أليس هذا أفضل؟”.
ويقول الدكتور دوشي أيضا إنه في حال غيرت ديفانشي رأيها لاحقا، ورأت أنها “اتخذت قرارا خاطئا في ظل تأثيرات من معلمها”، يمكنها دائما العودة إلى العالم المادي.
وتتساءل البروفيسور ميهتا، لماذا لا تترك لتتخذ قرارها بعد أن تصبح راشدة؟
وتقول “العقول الفتية قابلة للتأثر، وفي غضون سنوات قليلة، قد تفكر أن هذه ليست الحياة التي تريدها”، مضيفة أن هناك حالات غيرت فيها فتيات رأيهن بمجرد أن كبرن، وأصبحن راشدات.
وتقول ميهتا إنها قبل بضع سنوات تعاملت مع حالة راهبة شابة من الجاين، هربت من مركزها لأنها كانت مصابة بصدمة شديدة.
كما تسببت فتاة أخرى نذرت حياة الزهد في التاسعة من عمرها، بما اعتبر فضيحة عام 2009، إذ بعد أن أصبح عمرها 21 عاما، هربت، وتزوجت صديقها.
وقد سبق أن قدمت في الماضي، التماسات إلى المحكمة بهذه الخصوص، لكن ميهتا تقول إن أي إصلاح اجتماعي يمثل تحديا كبيرا، بسبب الحساسية التي ينطوي عليها الأمر.
وتضيف “لا يقتصر الأمر على أتباع ديانة جاين، هناك أيضا الفتيات الهندوسيات اللواتي (يزوجن) من آلهة، ويصبحن ديفاديسيس (رغم حظر هذه الممارسة عام 1947)، وهناك أيضا الفتيان الصغار الذين ينضمون إلى أخادس (المراكز الدينية)، وفي البوذية يُرسل الأطفال للعيش في الأديرة كرهبان”.
وترى ميهتا أن “الأطفال يعانون في ظل كافة الأديان، لكن أي تحد (لتلك الممارسات) يعتبر كفرا وتجديفا”، وتضيف أن العائلات والمجتمعات بحاجة إلى أن تتثقف، وتدرك بأن “الطفل ليس ملكا لك”.