منوعات

كتاب الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرفاه الاقتصادي

الثلاثاء 15-10-2024 :

تأليف : فرانسيس فوكوياما
عرض ومراجعة إبراهيم غرايبة
الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرفاه الاقتصادي
ترجمة : معين الإمام / مجاب الإمالم
640 صفحة
الناشر : منتدى العلاقات العربية و الدولية
يؤكد المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه «الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في الرخاء الاقتصادي» على أهمية الفضائل الاجتماعية والأخلاقية وبخاصة في مرحلة يشكل رأس المال البشري المورد الأساسي للأعمال والتقدم. هكذا فإن رأس المال الاجتماعي بما هو الأخلاق الحميدة يصعد اليوم كأساسٍ للتقدم وحلٍّ للأزمات والمشكلات المعاصرة. ويقول فوكوياما إن الثقافة تؤثر بقوة وفاعلية في الاقتصاد وفي حياة الناس ومواردهم وأعمالهم، ولا يمكن عزل الاقتصاد عن القيم والأخلاق وتأثيرها على الأسواق والأعمال والسلع كما أسلوب الحياة، وعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لنشاط اقتصادي أن يستغني عن قيم التعاون والتكافل الاجتماعي، سواء كان هذا النشاط مؤسسة صغيرة أو مصنعًا ضخمًا، ونحتاج جميعًا إلى الشعور بالرضا في أعمالنا وتواصلنا وعلاقاتنا في العمل والحياة، وهذا الرضا مستمد أساسًا من الرغبة الإنسانية العميقة بالاعتراف وتحقيق الذات.
والإنسان في حاجته للعمل والمال لا يحتاجهما لتحقيق حاجاته الأساسية من الغذاء والمأوى والكساء فحسب؛ بل لأجل هويته وكرامته ومكانته في المجتمع أيضًا، هكذا فإن الاقتصاد يشكل جزءًا أساسيًا من الحياة الاجتماعية، ويتأثر تأثرًا مباشرًا بالقيم والمعايير والالتزامات الأخلاقية والعادات والتقاليد والأعراف التي تحدد وجهة المجتمع وهويته، ومن ثم فلا يمكن تحقيق الازدهار والتقدم الاقتصادي من غير تقدم اجتماعي ثقافي.
إن القانون والعقد التجاري والعقلانية الاقتصادية توفر كلها أسسًا ضرورية لكن غير كافية لاستقرار المجتمعات ما بعد الصناعية وازدهارها، فلا بُدَّ أن تمتزج بقيم التكافل الاجتماعي والالتزام الأخلاقي والثقة المتبادلة، والإحساس بالواجب تجاه المجتمع، وهي خصال تنبع من العادات والتقاليد الاجتماعية وليست مفارقات تاريخية لا مكان لها في المجتمع الحديث، بل هي شروط لازمة وضرورية لنجاحه. فلم تتحقق أعلى درجات الكفاءة الاقتصادية بالضرورة بواسطة أفراد عقلانيين وأنانيين، بل عبر جماعات من الأفراد استطاعوا العمل معًا بكفاءة وفعالية، نتيجة وجود مجتمع اخلاقي مسبق يحضهم على التواصل والاجتماع.
يتميز رأس المال الاجتماعي أنه يوجد ويتحرك عبر آليات ثقافية متعددة مثل الدين والتقاليد والعادات التاريخية والأعراف. وبنما تعدّ العقود الرسمية والمصلحة الذاتية من الأسس المهمة للتجمع البشري، إلا أن أكثر المؤسسات فاعلية وكفاءة تعتمد على مجتمعات تتبنى معايير أخلاقية مشتركة، ولا تحتاج هذه المجتمعات إلى عقود رسمية شاملة، ولا ترتيبات قانونية تنظم العلاقات بين أفرادها، لأن هؤلاء أجمعوا منذ البداية على الالتزام بقواعد أخلاقية ومعنوية تشكل أساسًا لبناء الثقة المتبادلة في ما بينهم.
لا يمكن اكتساب رأس المال الاجتماعي الضروري لإيجاد هذا النوع من المجتمع الأخلاقي عبر قرار استثماري عقلاني. أي أن الفرد يستطيع ببساطة اتخاذ قرار بالاستثمار في أحد الأشكال التقليدية من رأس المال البشري، مثل الدراسة في كلية من الكليات، أو التدريب في أحد المعاهد المتخصصة ليكون على سبيل المثال ميكانيكيًا أو مبرمجًا، وذلك بمجرد الذهاب إلى المكان المناسب لتنفيذ قراره، خلافًا لذلك يتطلب اكتساب رأس المال الاجتماعي ترويضًا وتعودًا على الالتزام بالمعايير الأخلاقية للمجتمع، كما يتطلب اكتساب مجموعة من الفضائل مثل الإخلاص والأمانة، فضلًا عن ذلك؛ يجب على الجماعة تبني مجموعة من المعايير المشتركة قبل أن يصبح بالإمكان تعميم الثقة بين أعضائها. بكلمات أخرى؛ لا يمكن الحصول على رأس المال الاجتماعي بمجرد إعطاء الأفراد حرية التصرف كما يحلو لهم، فهو مؤسس على انتشار فضائل اجتماعية لا فردية، واكتساب الميول نحو التواصل الاجتماعي يفوق في صعوبته اكتساب النزوع نحو الأنواع الأخرى من رأس المال البشري، إلا أن حقيقة اعتمادها على العادات والتقاليد الأخلاقية تضاعف من صعوبة تعديلها أو تدميرها.
إن لرأس المال الاجتماعي تبعات تؤثر إيجابًا في طبيعة الاقتصاد الصناعي الذي سيتمكن المجتمع من إقامته، ولو انتشرت الثقة بين جميع القائمين بأي مشروع تجاري نتيجة اشتغالهم وفق مجموعة مشتركة من المعايير الأخلاقية فسوف تنخفض تكاليف الأنشطة الاقتصادية، وسوف تتحسن قدرة المجتمع على ابتكار أشكال تنظيمية جديدة، لأن المستوى المرتفع من الثقة سيسمح بظهور مجموعة واسعة ومتنوعة من العلاقات الاجتماعية. وفي المقابل فإن الجهاز القانوني الذي يعمل بديلا للثقة يزيد التكاليف، حيث يفرض فقدان الثقة في المجتمع نوعًا من الضريبة على جميع أشكال النشاطات الاقتصادية، وهي ضريبة تعفى من دفعها مجتمعات الثقة العالية.
وخلافًا للمجتمعات الأسروية (الثقة بالأقارب والتضامن معهم والعكس مع الغرباء) تتميز مجتمعات الثقة العالية مثل ألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية بوجود درجة عالية من الثقة الاجتماعية المعممة، ومن ثم بنزعة قوية عفوية نحو التواصل الاجتماعي. ولذلك فقد تأسست في مجتمعات الثقة العالية شركات عملاقة، لكن في مجتمعات الثقة الأسروية فقد ظلت الشركات ذات طابع عائلي وأقل حجمًا.
تمثل اليابان نموذجًا رائدًا لأمة حققت أعلى درجات التقدم الاقتصادي والعلمي وفي الوقت نفسه فإن اليابانيين يغلب عليهم الالتزام الديني والاجتماعي والتمسك بالثقافة والتقاليد الراسخة والقديمة في المجتمع الياباني. ومن المدهش في الحالة اليابانية القدرة على الجمع بين الفردية والجماعية، والدور الواسع للقطاع الخاص والاحترام الكبير للدولة والنظام الحكومي، فالدولة في اليابان تؤدي دورًا قليلًا في الاقتصاد، وبرغم ذلك تتمتع اليابان كما يصفها فرنسيس فوكوياما بمستوى متقدم من التفاعل المتميز بالبراعة والمهارة بين الحكومة والشركات الكبرى في اليابان، والتعبير المألوف «الاندماج الياباني بين الحكومة والشركات» أبلغ ما يصف هذه العلاقة، إذ تبلغ درجة التعاون بين الوكالات الحكومية والشركات الخاصة حدًّا مُتقدمًا على دول العالم بحيث يصعب التفريق بين القطاع العام والقطاع الخاص، لقد أكد المراقبون مرارًا على أن في الحياة الاقتصادية اليابانية عنصرًا قوميًا تفتقده الدول الغربية، فحين يذهب المدير التنفيذي الياباني إلى العمل فإنه يبذل أقضى جهده في سبيل مجد ورفعة الأمة اليابانية كما يبذل جهده لأجل نفسه وعائلته وشركته.
ويدعم المجتمع الياباني شبكة واسعة من المؤسسات التطوعية التي تنشط في المجالات الدينية والفنية والحرف التقليدية، ومن الملفت أنها جماعات تشبه العائلات في تراتبيتها وروابطها القوية بين المعلمين (المرشدين) والمريدين، لكنها لا تعتمد على صلات القرابة، بل على العضوية التطوعية.
ويعد اليابانيون من الشعوب المتدينة، فهم يتبعون ديانة الشنتو والبوذية، وبعضهم اعتنق المسيحية، ويدعمون شبكة واسعة من المؤسسات الدينية، ويمثل الرهبان ومريدوهم قوة اجتماعية تاريخية ومؤثرة في اليابان، كما تملك اليابان نظامًا متماسكًا من الجامعات الخاصة التي أسسها أغنياء ومنظمات دينية.